​بقلمخلف سرحان القرشي

 

في قاعة (سندريلا للأفراح) كان كل شيء في تلك الليلة يسير على خير ما يرام، وما إن أعلنت مقدمة البرنامج أن العروس على وشك دخول القاعة حتى اشرأبت الأعناق نحو ذلك الباب الداخلي الصغير. الكل ينتظر طلة سعاد، تلكم الفتاة فائقة الجمال، لا سيما عينيها الواسعتين، وقدها النحيف المياس، وطولها المعتدل، وبياض بشرتها المشوب بحمرة.

تهادت سعاد قادمةً -وكأنها بدر السماء إذا تبدى- مختالة في زي العرس، وبلمسات مكياج خفيفة تكسو وجنتيها وخديها وجبينها وما حول عينيها، وتزيد من فتنتها وسحرها وجاذبيتها. كست وجهها لمسة من خجل منحت وجهها المدور جاذبية حيرى بمجرد أن أبصرت امتلاء الصالة بالنساء، وسمعت صخب هتافاتهن وزغاريدهن، مع أصوات الطبول، وتلك الأغنية الراقصة ذات الإيقاع السريع التي رقص على أنغامها أطفال وفتيات ضاقت بهم المنصة.

وما إن أخذت العروس مكانها في منتصف المنصة، تناولت خالتها -أم ناصر- فجأة المايكرفون من مقدمة البرنامج وطلبت من الحاضرات جميعهن -بأسلوب يقترب من الاستجداء- ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والإكثار من قول: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» طردًا للعين، واتقاء للحسد.

تقبل كثير من الحاضرات طلبها هذا بالاستجابة الفورية، بينما أطلق بعض النسوة ضحكات سخرية، وصيحات تهكم من الطلب غير المعتاد في مثل هذه المناسبات.

أم ناصر هي من ربت سعاد التي عاشت يتيمة الأم والأب، فقد رحلت أمها إلى جوار ربها منذ لحظة ولادتها، أما أبوها فقد قضى نحبه في إحدى الحروب، وهي لم تبلغ الثالثة من عمرها بعد.

لم ترضع الخالة ابنة أختها من ثدييها، بل كانت تعطيها حليبًا مصنعًا مزودًا بكم وافر من المعادن والفيتامينات ومركب (أوميجا 3)، كان أحد أطباء الأطفال قد نصحها باستخدامه منذ لحظة ولادتها ابنها ناصر الذي يكبر سعاد بعام واحد فقط.

لقد زاوجت أم ناصر في إرضاع ناصر بين الرضاعة الطبيعية من صدرها وإرضاعه من الحليب الصناعي.

عاملت أم ناصر سعاد مثلما تعامل أي أم مخلصة ابنتها، لا سيما أنها لم ترزق بعد ناصر بأبناء لأسباب حار في تفسيرها الأطباء والمعالجون الشعبيون، وكذلك الرقاة والمشعوذون الذين ذهبت إليهم على مدار عقدين من الزمن.

في بيت أم ناصر نشأت علاقة حب صامت بين سعاد وناصر منذ بواكير طفولتهما على مرأى ومسمع وملاحظة ومتابعة واعية من أم ناصر التي حرصت أن تكون العلاقة بينهما سامية راقية كما ينبغي أن تكون العلاقة بين فتاة وشاب مسلمين، ومن عائلة محافظة، وفي ذهنها تتويج تلك العلاقة المقدسة برباط الزواج الشرعي الذي يحتفل به الليلة في هذه القاعة.

ويحتفل به أيضاً في القاعة الرجالية المجاورة المبتهجة ناصر العريس في بشته الأبيض الذي يشع بهاء وفرحاً، والابتسامة لا تغادر محياه بين أهله وذويه وأصدقائه وزملائه، وهم جم كثير.

وبعد مضي ساعة تقريباً من طلة العروس، طلبت مقدمة الحفل من النساء أن يغطين رؤوسهن، ويرتدين عباءاتهن لأن العريس على وشك القدوم.

أقبل العريس بطوله الملحوظ، وبوسامته المعهودة التي اكتسبها من جمال وجهه، وتناسق أطراف جسمه وطوله المهيب، وبعض اخضرار في عينيه مع امتلاء بشرته التي يتصارع على احتلالها اللونان الأبيض والأحمر.

كان الفرح طاغياً على العريس والعروس وعلى كل من بالقاعة حتى الأطفال الصغار، صبيانًا وبنات تشي ملامحهم بالبهجة والسرور والبشر.

وقبيل أن يدعى النساء لتناول الطعام الذي كان وفيرًا ومتنوعًا تنبئ رائحته عن لذته قبل تذوقه، قامت من بين النساء امرأة في منتصف العمر، وتناولت المايكروفون، وصاحت في الحضور:

«أذكروا الله، وصلوا على النبي.. أقسم لكم بالله أنني أرضعت سعاد وناصر من صدري هذا أكثر من مرة، عندما مرضت أم ناصر، ونومت بمستشفى الأمراض الصدرية أسبوعًا كاملًا، وأوصتني بهما خيرًا. وهما أخوان من الرضاعة. وزواجهما لا يصح.. اللهم هل بلغت.. اللهم فأشهد».

انهارت سعاد، ووقعت من على كرسيها الواسع أرضًا. بكت أم ناصر بحرقة، إلى أن أغمي عليها، واستدعي الإسعاف لنقلها إلى المستشفى، أما ناصر فقد غادر القاعة سريعًا إلى جهة غير معلومة.

نادت أحدى مشرفات القاعة على العمال ليحملوا الطعام الذي لم يمس كثير منه إلى سيارة مؤسسة حفظ النعمة التي تقف عند باب القاعة لتوزعه على الفقراء.