جدلية العلاقة بين الغرض الشعري وإيقاعه

​​

بقلمدسحر بنت عبدالرحمن الدوسري*

يمكن أن نصف الشعر بأنه: (صورة جميلة من صور الكلام)(1).

وذلك لما يمتاز به من نغم يثير فينا انتباهاً عجيباً… فهو كالعقد المنظوم تتخذ الخرزة من خرزاته في موضع ما شكلاً خاصاً وحجماً خاصاً ولوناً خاصاً، فإن اختلفت في شيء من هذا أصبحت نابية غير منسجمة مع نظام هذا العقد)(2).

وما إن نتأمل في هذا العقد الثمين الذي حرص صاحبه على تناسق نظامه وحلاوة جرسه حتى تتداعى إلى أذهاننا قضية، العلاقة المحتملة بين الوزن والمعنى، وبين القافية والمعنى أيضاً، ذلك الجب العميق الذي أدلى فيه القليل من القدماء برأيه -بغير قليل من الحرص والتحفظ- وخاض فيه حتى الثمالة نفر من المحدثين.

إن متتبع هذه القضية يجد أن إرهاصاتها المبكرة تعود -فيما أعلم- إلى قول كل من: ابن طباطبا العلوي (ت322ﻫ)، (فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه، في فكره «نثرًا»، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه) جنباً إلى جنب مع قول أبي هلال العسكري (ت بعد عام 400ﻫ(3).

(وإذا أردت أن تعمل شعراً فأحضر المعاني التي تريد نظمها فكرك، وأخطرها على قلبك، واطلب لها وزناً يتأتى فيه إيرادها وقافية يحتملها؛ فمن المعاني ما تتمكن من نظمه في قافية ولا تتمكن منه في أخرى(4).

وبناء على تأول القولين السالفين، أقدم حازم القرطاجني (ت684ﻫ) على محاولة أولية للربط بين البحور الخليلية وجداول دلالية جاهزة، وذلك في قوله: (ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة وما يقصد به الهزل والرشاقة، ومنها ما يقصد به البهاء والتفخيم وما يقصد به الصغار والتحقير، وجب أن تحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس. فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة الباهية الرصينة، وإذا قصد في موضع قصداً هزلياً أو استخفافياً وقصد تحقير شيء أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة البهاء، وكذلك في كل مقصد. وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزناً يليق به ولا تتعداه فيه إلى غيره(5).


ويوحي القول السالف بأن القرطاجني قد أفاد من المحاولات الأولية التي كانت عند سالفيه، إضافة إلى ما رواه الفارابي (ت339ﻫ) عن اليونان، وذلك في قوله: والمستظهر لآداب الأمم الأخرى يرى (أن جل الشعراء في الأمم الماضية والحاضرة -الذين بلغنا أخبارهم- خلطوا أوزان أشعارهم بأحوالهم ولم يرتبوا لكل نوع من أنواع المعاني الشعرية وزناً معلومًا، إلا [اليونانيين] فقط: فإنهم جعلوا لكل نوع من أنواع الشعر نوعاً من أنواع الوزن، مثل أن أوزان المدائح غير أوزان الأهاجي، وأوزان الأهاجي غير أوزان المضحكات، وكذلك سائرها(6).

ومن هنا كان الإيذان بحراك نقدي معاصر كبير حول قضية العلاقة بين الوزن الذي يركبه الشاعر، والقافية التي يجعلها قراراً لبيته والحالة النفسية الآنية التي كان عليها. ولعل أكبر محاولة حظي بها النقد المعاصر هي محاولة: عبدالله الطيب الذي صدر حديثه عن الوزن بنضال طويل عن فكرته، نقتطع منه قوله: (مرادي أن أحاول -بقدر المستطاع- تبيين أنواع الشعر التي تناسب البحور المختلفة).

وقد يقول قائل: ما معنى قولك هذا؟ أتعني أن أغراض الشعر المختلفة تتطلب بحوراً بأعينها؟ هذا عين الباطل! ألسنا نجد مراثي في الطويل، وأخرى في البسيط، وأخرى في المنسرح، وهلم جرا؟ ألا يدل هذا على أن أي بحر من البحور يصلح أن ينظم فيه لأي غرض من الأغراض الشعرية؟.

وجوابي عن مثل هذا السؤال: بلى، كما يبدو ويظهر، ولكن كلا وألف كلا، لو تأمل الناقد ودقق وتعمق. فاختلاف أوزان البحور نفسه، معناه أن أغراضاً مختلفة دعت إلى ذلك، وإلا فقد كان أغنى بحر واحد، ووزن واحد)(7).

ويرد محمد غنيمي هلال على هذه الفكرة قائلاً: (ربط بعض الباحثين بين موقف الشاعر من معانيه وعاطفته وبين الإيقاع والوزن اللذين اختارهما للتعبير عن موقفه، على نحو ما هو معروف في شعر الكلاسيكيين من الأوروبيين والقدماء من شعراء الغرب، والحق أن القدماء من العرب لم يتخذوا لكل موضوع من هذه الموضوعات وزناً خاصاً من بحور الشعر القديمة. فكانوا يمدحون ويفاخرون ويتغازلون في كل بحور الشعر. وتكاد تتفق المعلقات في موضوعها، وقد نظمت من الطويل والبسيط والخفيف والوافر والكامل، ومراثيهم في المفضليات جاءت من الكامل والطويل والبسيط والسريع والخفيف. والأمر بعد ذلك للشاعر(8).

ويشاركه إبراهيم أنيس الرأي فيقول: (إن استعراض القصائد القديمة وموضوعاتها لا يكاد يشعرنا بمثل هذا التخير، أو الربط بين موضوع الشعر ووزنه: فهم كانوا يمدحون ويفاخرون، أو يتغزلون في كل بحور الشعر التي شاعت عندهم. ويكفي أن نذكر المعلقات… لنعرف أن القدماء لم يتخيروا وزناً خاصاً لموضوع خاص)(9).

ويرى سليمان البستاني رأي سابقيه فيقول: لقد (نظم العرب كل معنى على كل بحر وكل قافية وأجادوا، والقريحة الجيدة نقادة خبيرة إذا طرقت باباً انفتح لها ملء رغبتها فتقع على البحر والقافية وهي لا تعلم من أين تأتى لها أن تقع عليهما، وإنما هو الشعور الشعري يدفعها إلى حيث يجب أن تندفع(10)،

 

ويؤازر عز الدين إسماعيل من سبقه في دحض هذا التوجه حين يقول: من الذائع المستفيض (أن الشاعر حين يريد أن يقول شعراً لا يحدد لنفسه بحراً بعينه، وإنما هو يتحرك مع أفاعيل نفسه فيخرج الشعر في الوزن الذي يوافق له من الأوزان. ومعنى هذا: أن الوزن المجرد لا يعطي لوناً بعينه من الموسيقى… وهو موسيقى فارغة من المعنى، وطبيعي أن يكون المعول في فهم موسيقى الشعر، التي تلون كل قصيدة بلون خاص، أو التي لها معنى، على الإيقاع)(11).

والذي تطمئن إليه النفس -بعد عرض هذه الآراء- (أن دراسة الارتباط بين الوزن الشعري والمعاني، أو بين الوزن ومختلف الانفعالات «العواطف» لا يمكن أن تضبط ضبطاً دقيقاً صارمًا، كما تضبط مباحث الفيزياء، فالأصوات حين تصير رموزاً دالة على معان كاشفة مرامي الذات الشعرية ومقاصدها، فإنه يصعب فصلها عن سياقها الشعري ودلالاتها المعنوية)(12).

لهذا وقع عبدالله الطيب في شرك التعميم حين حاول تقسيم البحور الشعرية، وكذلك القوافي إلى: (مصفوفات بعضها يصلح لهذا وبعضها لا يصلح لذاك)(13).

ثم حاول تطبيق نظريته على شريحة انتقائية تخدم رؤيته وتجاهل ما سواها تارة، وتارة أخرى أثبت ما يعارض نظريته من النصوص، وعدها من الفرائد التي لا يقاس عليها! ولهذا وقف محمد غنيمي هلال موقفاً ضبابياً متذبذباً من فكرة العلاقة بين العروض والقوافي وحالة الشاعر الانفعالية، فتارة يقول ما يفيد معارضته لهذه الفكرة -وقد جاء قوله فيما تقدم من حديث- وأخرى يقول: قد يقع الشاعر (على البحر ذي التفاعيل الكثيرة في حالات الحزن؛ لاتساع مقاطعه وكلماته لأناته وشكواه: محباً كان أو راثياً. أو لملاءمة موسيقاه الجدية الرزينة من فخر وحماسة ودعوة إلى قتال وما إليه، ولهذا كانت البحور الغالبة في الأغراض القديمة هي الطويل والكامل والبسيط والوافرة(14)!.

ولم ينفذ سليمان البستاني بجلده، فقد نقض بعض كلامه بعضه الآخر فتارة نجده يجعل الشاعر: (مطلق اليدين يتصرف بالشعر كيف شاء وله أن يرتضي ما تيسر له من الأوزان والقوافي، وهي تبرز له من نفسها بشكلها الأنيق وقوامها الرشيق)(15).

وتارة أخرى يعود لمناقضة نفسه حين يقول: (لهذا رأيت أن أذكر… ما تيسر لي استخراجه من شعر العرب بالنظر إلى ترابط بحور الشعر بمواضيعه وأبوابه… ولا شك أن العروضيين نظروا إلى أبحر الشعر من هذه الوجهة، ولكنهم لم يزيدوا على تسميتها بأسماء تنطبق توسعاً على أسماء مواضيع القصائد المنظومة عليها)(16)!!.

ومن هنا يتبين أن مرد الحرج الذي وقع به من تناول هذه القضية من المحدثين إلى أن: (العلاقة بين الشاعر والنغم الشعري، والإيقاع الذاتي للفظة الواحدة والألفاظ المتعانقة علاقة أخفى من أن تحدها القيم الصارمة، والتحديدات الدقيقة، والمقاييس الثابتة)(17)،

إن افتراض وجود علاقة بين الوزن والمعنى أو العاطفة افتراض غير دقيق، وإن وجد يصح (بالنسبة إلى من استخدم الوزن أول مرة، أعني الشاعر الأول الذي لا نعرفه الآن، والذي عبر عن نفسه في وزن شعري بذاته. هو الذي اخترع الموسيقى التي تناسب حالته الشعورية)(18)،

وعلى هذا فإن كل شاعر ركب هذه البحور وقفى بهذه القوافي بعد «الشاعر الأول المخترع المجهول» مقلد غير صادق مع نفسه، بدءً من امرئ القيس -الذي زعم أنه ينهج منهج ابن خذام في الوقوف على الأطلال(19).

وحتى آخر من قال وسيقول من الشعراء! وذلك لا يصح بالنظر إلى الغرر والفرائد التي يزخر بها التراث الشعري العربي.

فإن قال قائل -مقالة عبدالله الطيب: (فقد كان أغنى بحر واحد، ووزن واحد)(20).

 

إذن! أجبناه بقول حازم القرطاجني: إن النفس قد جبلت على (حب النقلة من الأشياء التي لها بها استمتاع… إلى غيرها من التنوعات)(21).

وذلك دفعاً للسآمة فالنفس جديرة بأن (تسأم التمادي على الشيء البسيط الذي لا تنوع فيه(22).

كما أن هذا التنوع يكفل لها: (المراوحة بين تأمل الشيء وتأمل غيره)(23).

وبعد فإننا حين نرجح كفة الرأي الأخير -الذي نادى به المعاصرون على وجل وتردد- فإننا نحمي الشاعر والتراث الشعري العربي من تشوهات خطيرة؛ إذ يجعل منه -ذلك الاعتقاد السالف- شخصاً متكلفاً يصب اهتمامه على الوزن الذي يلبسه شعره، والقافية التي يختم بها بيته، عوضاً أن يوجه هذا الاهتمام إلى أحاسيسه الذاتية المتدفقة وانفعالاته ومشاعره، إننا بهذه الطريقة سنخلق شعراء مشوهين كلهم خارج دائرة الشعراء المطبوعين، وهذا ما لا يريده كل غيور على العربية وتراثها الشعري المجيد -وكل من تعاور هذه القضية ذاك الرجل غير أنه لم يوفق إلى جادة السبيل.

 

 

الأستاذ المساعد في الأدب والنقد بجامعة سطام بن عبدالعزيز

 

 

 

المراجع:

(1) موسيقى الشعرإبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، الطبعةالثانية، مصر، مكتبة الأنجلو المصرية، 1952م، ص: 5.

(2) نفسه، ص: 11.

(3) كتاب عيار الشعرأبو الحسن، محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي، تحقيقدعبدالعزيز بن ناصر المانع، (دط)، الرياضالمملكة العربية السعودية، دار العلوم للطباعة والنشر، 1405-1985م، صص: 7-8.

(4) كتاب الصناعتين «الكتابة والشعر»: أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري، تحقيقعلي البيجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعةالثانية، القاهرة، دار الفكر العربي، (د.ت)، ص: 145.

(5) منهاج البلغاء وسراج الأدباءأبو الحسن حازم القرطاجني، تقديم وتحقيقمحمد الحبيب بن الخوجة، الطبعةالثالثة، تونس، الدار العربية للكتاب، 2008م، ص: 239.

(6) رسالة في قوانين صناعة الشعراء «ضمن كتاب فن الشعر لأرسطو»: أبو نصر محمد الفارابي، تحقيقعبدالرحمن بدوي، الطبعة الثانية، بيروت، دار الثقافة، 1973م، ص: 152.

(7) المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتهاعبدالله الطيب، الطبعةالثالثة، الكويت، دار الآثار الإسلامية –وزارة الإعلام، 1409=1989م، صص: 93-94.

(8) النقد الأدبي الحديثمحمد غنيمي هلال، (د.ط)، مصر، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1996م، ص: 441.

(9) موسيقى الشعر، ص: 175.

(10) إلياذة هوميروس «معربة نظماً وعليها شرح تاريخي أدبي»: سليمان البستاني، (د.ط)، مصر، مطبعة الهلال، 1904م، ص: 89.

(11) الأسس الجمالية في النقد العربي «عرض وتفسير ومقارنة»: عز الدين إسماعيل، (د.ط)، القاهرة، دار الفكر العربي، 1412=1992م، ص: 316.

(12) أوزان الشعر العربي بين المعيار النظري والواقع الشعري «الشعر الجزائري في معجم البابطين أنموذجاً تطبيقياً»: ناصر لوحيشي، الطبعة الأولى، إربدرالأردن، عالم الكتب الحديث، 1432=2011م، ص: 106.

(13) انظرالتجديد الموسيقي في الشعر العربي «دراسة تأصيلية تطبيقية بين القديم والجديد لموسيقى الشعر العربي»: رجاء عيد، (د.ط)، الإسكندرية، منشأة المعارف، (د.ت)، صص: 16-18.

(14) النقد الأدبي الحديث، ص: 441.

(15) إلياذة هوميروس معربة نظماً وعليها شرح تاريخي أدبي، ص: 90.

(16) نفسه، ص: 90.

(17) الإيقاع في الشعر العربيعبدالرحمن الوجي، الطبعةالأولى، دمشقسورية، دار الحصاد، 1989م، ص: 78.

(18) التفسير النفسي للأدب، ص: 51.

(19) انظرديوان امرئ القيستحقيقمحمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعةالخامسة، القاهرة، دار المعارف، (د.ت)، ص: 114.

(20) المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، ص: 94.

(21) منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص: 221.

(22) نفسه، ص: 221.

(23) نفسه، ص: 221.

​​​