بقلم : جاد الكريم مهدي صغير
في السنة السادسة من الهجرة عزم الرسول صلوات الله عليه على أن يوسع نطاق دعوته إلى الله فكتب ثمانية كتب إلى ملوك العرب والعجم وبعث بها إليهم يدعوهم فيها إلى الإسلام، وكان في جملة من كاتبهم ثمامة بن أثال الحنفي.
ولا عجب فثمامة سيد من سادات العرب في الجاهلية من بني حنيفة المرموقين، وملك من ملوك اليمامة الذين لا يعصى لهم أمر.
أعرض ثمامة عن رسالة النبي عليه الصلاة والسلام فأصم أذنيه عن سماع دعوة الحق والخير، ثم عزم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ يتحين الفرص لولا أن أحد أعمام ثمامة ثناه عن عزمه في آخر لحظة فنجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم.
لكن ثمامة إذا كان قد كف عن رسول الله صلوات الله عليه فإنه لم يكف عن أصحابه إذ جعل يتربص بهم حتى قتل عدداً منهم، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وأعلن ذلك في أصحابه، ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى عزم ثمامة بن أثال على أداء العمرة بالطواف حول الكعبة مع الذبح لأصنامها.
وبينما كان ثمامة في طريقه قريباً من المدينة نزلت به نازلة لم تكن له فى الحسبان.. ذلك أن سرية من سرايا رسول الله صلوات الله عليه كانت تحرس الديار خوفاً من أن يطرق المدينة طارق، أو يريدها معتد بشر.
فأسرت السرية ثمامة وهي لا تعرفه وأتت به إلى المدينة وشدته إلى سارية من سواري المسجد منتظرة أن يقف النبي الكريم بنفسه على شأن الأسير وأن يأمر فيه بأمره.
ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد وهم بالدخول فيه رأى ثمامة مربوطاً في السارية فقال لأصحابه: (أتدرون من أخذتم)، فقالوا لا يا رسول الله.
فقال: هذا ثمامة بن أثال الحنفي فاحسنوا معاملته.. ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى أهله، وقال اجمعوا ما كان عندكم من طعام وابعثوا به إلى ثمامة بن أثال.
ثم أمر بناقته أن تحلب له في الغدو والرواح، وأن يقدم له لبنها وتم ذلك كله قبل أن يلقاه الرسول صلوات الله عليه، أو يكلمه، ثم إن النبي أقبل على ثمامة وقال: (ما عندك يا ثمامة)؟.
فقال عندي يا محمد خير فإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فتركه رسول الله صلوات الله عليه يومين حتى إذا كان اليوم التالي جاءه فقال: (ما عندك يا ثمامة)؟.
فقال عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال أعطيتك منه ما تشاء.
فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: (أطلقوا ثمامة) ففكوا وثاقه وأطلقوه.
غادر ثمامة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى حتى إذا بلغ نخلاً في حواشي المدينة قريباً من البقيع فيه ماء، أناخ راحلته عنده وتطهر من مائه فأحسن طهوره، ثم عاد أدراجه إلى المسجد، فما أن بلغه حتى وقف على ملأ من المسلمين وقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم اتجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
يا محمد والله ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إلي من وجهك وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، والله ما كان دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، ووالله ما كان بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ.
ثم قال لقد كنت أصبت في أصحابك دماً فما الذي توجبه عليّ؟
فقال رسول الله صلوات الله عليه: (لا تثريب عليك يا ثمامة فإن الإسلام يجب ما قبله، وبشره بالخير الذي كتبه الله له بإسلامه.
فانبسطت أسارير ثمامة فقال والله لأقتلن من المشركين أضعاف ما قتلت من أصحابك، ولأضعن نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك.
ثم قال يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى أن أفعل؟.
فقال عليه الصلاة والسلام (امض لأداء عمرتك ولكن على شريعة الله ورسوله وعلمه ما يقوم به من المناسك.
مضى ثمامة إلى غايته حتى إذا بلغ بطن مكة وقف يجلجل بصوته العالي قائلاً: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
فكان أول مسلم على ظهر الأرض دخل مكة ملبياً.
سمعت قريش صوت التلبية فهبت مغضبة مذعورة واستلت سيوفها من أغمادها واتجهت نحو الصوت لتبطش بهذا الذي اقتحم عليها عرينها، ولما أقبل القوم على ثمامة رفع صوته بالتلبية وهو ينظر إليهم بكبرياء، فهم فتى من فتيان قريش أن يرديه بسهم فأخذوا على يديه وقالوا ويحك أتعلم من هذا؟! إنه ثمامة بن أثال ملك اليمامة، والله إن أصبتموه بسوء قطع قومه عنا المعونة وأماتونا جوعاً.
ثم أقبل القوم على ثمامة بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها وقالوا: ما بك يا ثمامة؟!، أصبوت وتركت دينك ودين آبائك؟!.
فقال ما صبوت ولكني اتبعت خير دين، اتبعت دين محمد، ثم قال أقسم برب هذا البيت إنه لا يصل إليكم بعد عودتي إلى اليمامة حبة من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبعوا محمداً عن آخركم.
اعتمر ثمامة بن أثال على مرأى من قريش كما أمره الرسول صلوات الله عليه أن يعتمر.. وذبح تقرباً لله لا للأنصاب ولا للأصنام ومضى إلى بلاده، فامر قومه أن يحبسوا المعونة عن قريش فاستجابوا له وحبسوا خيراتهم عن أهل مكة.
أخذ الحصار الذي فرضه ثمامة على قريش يشتد شيئاً فشيئاً فارتفعت الأسعار وفشا الجوع في الناس، واشتد عليهم الكرب حتى خافوا على أنفسهم وأبنائهم من أن يهلكوا جوعاً.
عند ذلك كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن عهدنا بك أنك تصل الرحم وتحض على ذلك، وها أنت قد قطعت أرحامنا فقتلت الآباء بالسيف، وأمت الأبناء بالجوع، وأن ثمامة بن أثال قد قطع عنا المعونة، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث إلينا بما نحتاج إليه فافعل.
فكتب عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بأن يطلق لهم المعونة فأطلقها.
ظل ثمامة بن أثال -ما امتدت به الحياة- وفياً لدينه حافظاً لعهد نبيه، فلما التحق الرسول عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى أخذ العرب يخرجون من دين الله، وقام مسيلمة الكذاب في بني حنيفة يدعوهم إلى الإيمان به، ووقف ثمامة فى وجهه وقال لقومه يا بني حنيفة إياكم وهذا الأمر الظلم الذي لا نور فيه، إنه والله لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاء على من لم يأخذ به، ثم قال يا بني حنيفة إنه لا يجتمع نبيان في وقت واحد، وإن محمداً رسول الله لا نبي بعده ولا نبي معه، ثم قرأ عليهم:
{حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
ثم قال: أين كلام الله هذا من قول مسيلمة: (يا ضفدع نقي ما تنقين لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين).
ثم انحاز بمن بقي على الإسلام من قومه ومضى يقاتل المرتدين جهاداً في سبيل الله وإعلاء لكلمته في الأرض.
جزى الله ثمامة بن أثال عن الإسلام والمسلمين خيراً وأكرمه بالجنة التي وعد المتقين.