في داخل أغوار قاموس العلوم السياسية، جرى تعريف (الحلف) في القانون الدولي، على أنه عبارة عن علاقة (تبادلية) بين دولتين أو أكثر، يتعهد بموجبها الفرقاء المعنيون بالمساعدة المتبادلة حال وقوع الحرب، كما أن سياسة الأحلاف تُعد بديلاً عن سياسة العزلة الرافضة لأي مسؤولية عن أمن الدول الأخرى، بجانب تميز الأحلاف عن سياسة الأمن الجماعي، التي تُعمم من حيث مبدأ التحالف لتجعله عالمياً، لردع العدوان والتصدي له في حالات الضرورة.
الناتو والواقع الدولي الجديد
الأحلاف العسكرية تعد أحد مظاهر التعاون بين الدول في الشؤون العسكرية والأمنية والدفاعية، وهي ظاهرة قديمة جداً، حيث شهد العالم منها عدداً من الصور والأشكال على مر العصور، وذلك بداية بالتحالفات الهشة مروراً بالاتفاقيات الثنائية، التي تولت تنظيم أمور الدفاع بين دولتين، حتى تطورت لتشمل اتفاقيات المعونة المتبادلة، التي تتعهد بموجبها دولتان أو أكثر بتقديم العون والمساعدة اللازمة، إذا ما تعرضت إحداها للعدوان.
وعن مفهوم الكتلة أو التكتل، فهو ينصرف لاتباع عدد من الدول لخط مشترك في عدد من المجالات، أهمها السياسة والدفاع والاقتصاد والتجارة والثقافة، ويمكن أن يكون ذلك التكتل موجهاً ضد مجموعة أخرى من الدول، كما يمكن أن يكون مقتصراً فقط على مجرد التعاون بين الدول العاملة تحت مظلته، وحتى يمكن الفصل أو التمييز بين التكتل والتحالف.
وذكر الفقهاء ثلاثة معايير فيما يخص ذلك الأمر.
فالأول: يتمثل في أن التكتل قد يمثل عصبة تتسم بالتجانس المذهبي بين أعضائها، في حين نجد أن الحلف لا يشترط ذلك.
الثاني: يكمن في مدى الاختصاص، ففي الوقت الذي يقتصر عمل الحلف فيه على تقديم المساعدة العسكرية، يمتد اختصاص التكتل للتنسيق بين أعضائه في عدة حالات سياسية واقتصادية وعسكرية وإيديولوجية، وغيرها من باقي النواحي الحياتية الأخرى.
الثالث: يتمثل في الفرق في عدم التكافؤ بين الدول العاملة تحت ذلك التكتل.
ففي حين يتزعم التكتل دولة قطبية كبيرة، تدور في فلكها عدة دول أقل منها قوة، نجد على العكس، أن الحلف وإن كانت القوة العسكرية غير متساوية بين أعضائه، لكن ذلك لا يعد معياراً في التنسيق بينهم، ويعد حلف شمال الأطلسي -أو ما يعرف اختصاراً بحلف (الناتو) على الصعيد الدولي، سواء في أثناء الحرب الباردة، أو المرحلة التي أعقبتها- مثالاً لتحقيق مبدأ الأمن الجماعي.
وبالنظر لهذه الأهمية والمكانة الخاصة التي يتمتع بها الناتو، يسعى الحلف إلى التكيف مع الواقع الدولي الجديد، الذي أعقب انتهاء الحرب الباردة بداية تسعينيات القرن العشرين، وما صاحبه من سقوط للمعسكر الشرقي وتفكيك حلف وارسو، اتجه حلف الناتو -لأجل التعامل مع ضرورات هذه المرحلة- إلى الخروج عن مبادئ معاهدة واشنطن التي أنشأته، وذلك من أجل تكييفه للقيام بمهمات التعديلات، التي أدخلت على عقيدة الحلف العسكرية، وعلى هياكل القوة فيه خارج نطاق المنطقة التقليدية لعمله، التي جرى تحديدها وفق المادة (6) من معاهدة واشنطن، التي جرى حصرها في منطقة غرب أوروبا وشمالي الأطلسي، وبذلك فقد اتسع النطاق الجغرافي لعمل الناتو، ليشمل كل أرجاء قارة أوروبا، على أساس أن أمن دول غربي القارة، يتأثر بما يجري حولها، ما يعني أن أي اضطراب بالقارة الأوروبية خاصة، أو أي مكان في العالم عامة، من الممكن أن يشكل تهديداً لدول الحلف، وهو ما يجعل -حسب عقيدته الجديدة- ضرورة التدخل لمواجهة تلك الأخطار، أياً كان مصدرها أو مكان حدوثها.
الأحلاف ونظرية الأمن الجماعي
لقد جرى استعمال لفظ (حلف) للدلالة على التزام التعاقد المتبادل بين عدد من الدول، من النمط السياسي أو العسكري، ويكون موجهاً ضد دولة محددة حتى من دون تسميتها، ومثل تلك الأحلاف تُنشِئ منظمات، تقوم بالسهاد على تنفيذ أهداف ومتطلبات الالتزام.
وتتميز دوماً بالطابع الرسمي، كتوقيع إحدى المعاهدات أو الاتفاقيات، لكنه في عدة حالات معينة قد تتفق الدول الخصوم على أكثر من مجرد التعاون في علاقات سلمية، لتقوم هذه الدول بالاشتراك في تطبيق مفهوم الأمن الجماعي، الذي قامت الأمم المتحدة على أساسه، ثم تتحد لأجل هزيمة عدو معتد على إحداها أو بعضها، لكن أكثر أمثلة التعاون الدولي شيوعاً من القدم، هو ما عُرف باسم (التحالف) تعبيراً جرى إطلاقه إجمالاً، على تنظيم أو التزام عدة دول، نحو اتخاذ تصرفات تعاونية محددة، ضد دولة أو دول أخرى في ظل ظروف معينة، لكن هناك أمثلة أكثر إيضاحاً للتعاون بين عدد من الدول في مواجهة دول اخرى من دون أن يتخذ ذلك التعاون الطابع الرسمي له، مثل ما عرف بـ (العلاقات الخاصة) القائمة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث ظهرت في عدة أشكال، وفي عدة مواقف إبان القرن العشرين.
ولتأكيد ذلك القول ما أورده رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل وهو السياسي البريطاني المحنك في أثناء الحرب العالمية الثانية، في يوميات مذكراته قائلا:ً
(ليست هذه الحرب صراعاً طبقياً وإنما هي نضال مشترك بين الإمبراطورية البريطانية وجامعة شعوبها، من دون تميز بالعنصر أو الدين أو الحزب، وليس من حقي أن أعبر عن أميركا، ولكن الذي أستطيع قوله، إنه إذا كان هتلر يظن أن زحفه على روسيا، سيؤدي إلى خلاف في الرأي، أو إضعاف في البذل في جانب الديمقراطيات العظيمة، التي تصر اليوم على محقه والقضاء علىه، فإنه لبالغ الخطأ، إذ إن العكس تماماً، هو الذي سيحدث، فهذا الهجوم الجديد لن يؤدي، إلا إلى مضاعفة الجهود المبذولة لإنقاذ البشرية من وحشيته، وستضاعف مواردنا وجهودنا وعزيمتنا).
كما استطرد تشرشل فزاد في قوله: (إن ما يواجه روسيا من أخطار، يواجهنا نحن أيضاً ويواجه أميركا كذلك، وأن قضية كل روسي يهب للدفاع عن أرضه وبيته، هي قضية كل إنسان حر في سائر أرجاء العالم، وهي قضية الشعوب الحرة جميعاً، وعلىنا ألا ننسى عبر هذه المحن، التي نقاسيها جميعاً، أن نبذل جهوداً مضاعفة، وأن نسدد متحدين ضربة قاصمة، ما دامت فينا إرادة وإحساس بالحياة).
الخلط بين كليهما
لا ريب، أن مفاد مفهوم الأمن الجماعي هو وجود نظام يحكمه عدد من القواعد الانضباطية العالية، بين مجموعة من الدول الهادفة إلى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر ردع مختلف التهديدات، التي تمس تلك الدول، بعد فشل نظام التوازن القوي متعدد الأقطاب في تحقيقه قبيل الحرب العالمية الاولى، علماً أن أول من طرح هذا المفهوم بشكل رسمي هو الرئيس الأميركي السابق وودر وولسن في إثناء إنعقاد مؤتمر فرساي عام 1919م، وتم تجسيده تطبيقياً ضمن محاولات عصبة الأمم، لإرساء السلم والأمن الدوليين، وجرى تبنيه لاحقاً في المادة (43) ضمن ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
كما عرف السياسي البريطاني (هنري ماكماهون) الأمن الجماعي، على أنه محاولة جماعية دولية، للتحالف بعضها مع بعض، للحفاظ على السلام، على غرار ما حاولنا عمله في حلف شمال الأطلسي، لكن ذلك التعريف أحدث خلطاً بين الأمن الجماعي والحلف العسكري، فبينما الحلف أداة لتحقيق الأمن الجماعي، وصلاحية انتهائه تتعلق بالعامل البراجماتي (المصلحة)، أصبح الأمن الجماعي أكثر استمراراًً لتعلقه بظاهرة السلم والأمن الدوليين، بهدف تفادي الحروب، وذلك هدفاً أساسياً وله أولوية، فيما يخص المجتمع الدولي.
وعُرف الأمن الجماعي أيضاً بأنه عبارة عن إرساء قواعد والتزامات جماعية، تتعهد بموجبها كل دولة بالانضمام إلى جميع الجهود المشتركة، ضد كل من يهدد سلامة أراضي الدول الأخرى أو استقلالها السياسي، لكن هناك من يرى أن الأحلاف العسكرية المقامة حالياً، إن هي إلا ردة فعل وأمراً مباشراً، عقب فشل نظام الأمن الجماعي، الذي حددت ميثاقه الأمم المتحدة، لانقسام حلفاء الأمس، ووصولهم إلى مرحلة العداء المباشر، وإنقلاب بعضهم على بعض، وهو المعروف اصطلاحاً بـ (الحرب الباردة)، وعلى حسبان صحة ذلك المبدأ نظرياً، لكن الأصح أن الأحلاف العسكرية تُعد وسيلة من وسائل توازن القوى في العالم، لكونها أقدم بمدد زمنية طويلة من الأمن الجماعي، الذي كانت أولى وسائله عصبة الأمم، لتحل محلها الأمم المتحدة.
بجانب أن من نتائج فشل نظام الأمن الجماعي أن أدى إلى انقسام العالم إلى معسكرين عملاقين متناحرين، حاولا دوماً ممارسة توازن في قواهما، كل عن طريق حلفائه أو تحالفاته، وبما تسببه تلك التحالفات من توترات واستفزازات، وصلت في عدة أحايين إلى مراحل تهدد بتحول الحرب الباردة إلى مواجهات عسكرية حقيقية.
فشل حلف بغداد
بمباركة غريبة من الولايات المتحدة وبريطانيا أبرمت بين العراق وتركيا اتفاقية تعاون عسكرية عام 1955م، عرفت لاحقاً بـ (حلف بغداد)، وسرعان ما انضمت إلىه في العام نفسه كل من بريطانيا وإيران وباكستان واتخذت بغداد مقراً له، ثم أنشات الاتفاقية مجالس وزارية ولجان عسكرية واقتصادية، ومن الواضح أن ذلك الحلف كان يستهدف في أساسه، منع انتشار النفوذ السوفيتي في المنطقة، بجانب حماية الأنظمة الصديقة له بالمنطقة، خشية تنامي حركة التحرر العربي، بعد استنفارها واشتداد قواها بالسنوات نفسها التي أخذت تشكل تهديداً مباشراً للمصالح الغربية النفطية، واشتداد معاداة إسرائيل.
وقد واجه الحلف معارضة قومية وعنفية على الأصعدة كافة الوطنية والمحلية، وحاول رئيس الوزراء العراقي وقتها نوري السعيد بذل المساعي لإقناع بعض الدول العربية للانضمام إلىه، لكنه واجه الرفض الشديد، لمساسه بالقضايا العربية وأولها القضية الفلسطينية، وللرد على ذلك الحلف، عُقد حلف للتعاون والدفاع المشترك، بين كل من مصر وسورية في أكتوبر من العام نفسه.
وفي ذات الوقت أبرمت مصر والسعودية والأردن واليمن عقب ذلك اتفاقية مشابهة، بينما في العراق واجه حلف بغداد منذ تأسيسه تنديداً قوياً وسخطاً واسعاً، من كل الأحزاب العراقية.
وقدمت مذكرة للملك، تطالبه بتخلي نوري السعيد عن الحكم وانتهاج سياسة عربية سلمية، وعقب وقوع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م عدت الأحزاب العراقية أنها فرصة ساحنة، للإعلان عن تضامنها مع الشعب العربي بمصر، لكن حكومة السعيد أظهرت موقفاً سلبياً تجاه مصر، وللتغطية على موقفه أعلن السعيد قطع العراق علاقته الدبلوماسية مع فرنسا من دون بريطانيا، لكونها عضواً في حلف بغداد، ليستمر التذمر الشعبيين العراقي والعربي من ذلك الحلف المزعوم، حتى جاءت ثورة الرابع من تموز عام 1958م لتسدد هي الأخرى أقوى الضربات للحلف وينسحب العراق من عضويته رسمياً في مارس عام 1959م، ما أدى لإجبار أعضاء الحلف على نقل مقره إلى العاصمة التركية (أنقره) وتغيير اسمه في أغسطس من العام نفسه ليصبح (حلف المعاهدة المركزية).
وفي عام 1979م وبعد الإطاحة بحكم الشاه في إيران، انسحبت طهران من الحلف، ثم تبعتها باكستان، وبعدها انسحبت تركيا، حيث لم يبق فيه غير بريطانيا فقط، وبذلك عد الحلف في حكم المقضي علىه تماماً.
والملاحظ أن فشل حلف بغداد كان نتيجة طبيعية لافتقاده الشفافية والصراحة اللازمتين، فيما يتعلق بمعالجة الأمور المتعلقة بالدفاع المشترك، واختلاف السياسات العربية الخارجية.
اليابان.. استسلام وصاية وتحالف
في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد استسلام اليابان في سبتمبر 1945م خضعت الامبراطورية اليابانية للولايات المتحدة الأميركية، بموجب معاهدة الأمن حتى أصبحت في بداية عام 1960م معاهدة تعاون وأمن متبادل، ولأنها كانت في وضع المهزوم وتحت الوصاية الأميركية، وطبقاً للمادة (9) من الدستور الياباني، الذي وضعه الأميركيون، كان علىها أن تعدل عن الحرب، وعن إنتاج أي قدرات عسكرية؛ ولأنها أرغمت على اللجوء للقوة العسكرية الأميركية لضمان الدفاع عن أمنها، اختارت اليابان المسار الصناعي لاستعادة قوتها.
ومع مرور الزمن باتت معاهدة التحالف المفروضة من قبل واشنطن سلاحاً في يد طوكيو ضد واشنطن، لاستفادة الجانب الياباني من التكنولوجيا في تطبيق إستراتيجية نهضة صناعية كبرى، حيث ظهر إنها تحل محل القوة العسكرية، ولمدة ثلاثة عقود من الزمن عملت واشنطن على تشجيع حليفتها ومساعدتها، لكي تبقى اليابان نداً قوياً أمام كل من الاتحاد السوفيتي والصين، كما عمل الأميركيون كذلك على جعل اليابان حليفاً إستراتيجياً بدلاً من الوصاية علىها، حتى أصبحت اليابان في عام 1985م الدولة الاقتصادية الأولى بالمحيط الهادي، وسرعان ما أوضحت أميركا لحلفائها الغربيين أن نقل التكنولوجيا، سيتم على نطاق واسع من اليابان إلى الولايات المتحدة، وذلك في إطار مساهمة يابانية ضمنية في مبادرة الدفاع الإستراتيجي.
وقد حددت هذه المساهمة بالعبارات الآتية: (تسمح حكومة اليابان -وفقاً للقوانين والأنظمة الملائمة للبلاد- بأن تنقل إلى حكومة الولايات المتحدة، أو إلى الأشخاص المخولين من قبل هذه الحكومة، بعض التكنولوجيا العسكرية، لزيادة قدرة الدفاع لدى الولايات المتحدة).
أعقبه طلب الولايات المتحدة رسمياً، مساهمة اليابان في مبادرة الدفاع الإستراتيجي، وما كان على اليابان سوى الامتثال للطلب الأميركي، على الرغم من قلق الصناعيين اليابانيين وخشيتهم من أن يمنعهم التكتم العسكري الذي يفرضه الاتفاق من استغلال تقدمهم التكنولوجي تجارياً، كما أكد نفر من الخبراء اليابانيين مخاوفهم من أن تجد اليابان نفسها معرضة بشكل خاص لأطماع الحليف الأميركي، لمستواها التكنولوجي الرفيع، إلى أن تحققت مخاوف الخبراء اليابانيين بالفعل، ووجدت اليابان نفسها منذ تلك السنوات في اندماج وتحالف لا رجعة فيه في الإستراتيجية العسكرية الأميركية، وبشكل من الأشكال عد ذلك اندماجاً وحيد الاتجاه، حتى أرغمت الولايات المتحدة في شهر أغسطس عام 1986م اليابان على توقيع اتفاق تجاري خاص بتجارة العناصر المركبة، وما كان من اليابان سوى الالتزام أيضاً، وفتح سوقها للعناصر المركبة الأميركية، وأن تقدم للولايات المتحدة كل المعطيات المتعلقة بسعر تكلفة ما تنتجه من عناصر مركبة، لذلك تحول التحالف الإستراتيجي (الأميركي – الياباني) وتحت تاثير مبادرة الدفاع الإستراتيجي إلى وصاية من نوع جديد ومتغير، وذلك عبر استخدام اليابان وسيلة لإنقاذ تفوق الولايات المتحدة في التكنولوجيا العسكرية.
الاختلال في توازن القوى
يمكن تلخيص فشل سياسة توازن القوى، بحسبانها أداة لحفظ السلام الدولي في عدة نقاط، أهمها تعذر إيجاد مقاييس كمية معترف بها من قبل كل الدول، لتقويم القوة النسبية لكل دولة أو لكل حلف، ومقارنتها بصيغة تثبت التكافؤ، الذي يشكل حجر الزاوية والأساس في سياسات توازن القوى، ما يعني أن المنطق المشيد على حتمية التوازن، في مجتمع متعدد الأطراف ومعقد وفي علاقاته ومصالحه ونطاق ديناميكية التغيير، التي تنتاب مختلف أوضاعه وجوانبه بشكل دائم، جعل من ذلك التوازن الدولي للقوى، هو أقرب للتصور النظري البحت منه إلى الواقع العملي، بجانب أن خطأ افتراض أن الدول لا تربطها علاقات دائمة، أو أن محرك تلك العلاقات هو القوة فقط.
فإلى جانب عامل القوة، يوجد هناك أيضاً عوامل كثيرة، تتمثل في المستلزمات الاقتصادية والأيديلوجية التي كثيراً ما تكون حائلاً دون بقاء إحدى الدول في طرف من أطراف معادلة التوازن، أو تمنعها عن الانتقال إلى الطرف الآخر، ما يؤدي لبروز الاختلال في التوازن نفسه، مثل حالة دولة يوغسلافيا الشيوعية، عقب سعيها -لأسباب مبينة- إلى الإفلات من فلك الطرف الاشتراكي في توازن القوى، الذي كان يسود أوروبا منذ سنوات أربعينيات القرن العشرين، لكنها لم تجد الشجاعة الكافية على الدخول في علاقة تحالف مع التكتل الغربي، نتيجة للتهديدات السوفيتية لها، واتخاذ تلك التهديدات أشكالاً متعددة، منها الخفي ومنها العلني.
لذا يتضح عدم التعجب من وقوع عدة حروب بالمجتمعات الدولية، أهمهما وأكثرهما دماراً، كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية، حيث كان لهما بالغ الأثر في تحفيز الدول للدخول بتجربة أخرى بعيدة عن توازن القوى، لدعم الأمن والسلام الدوليين، لذا عد مفهوم الأمن الجماعي أفضل الوسائل وأحدثها عبر منظمات دولية عالمية وإقليمية، منوط إلىها مسؤولية ذلك الأمر.
وسائل بيد مهندسي السياسات
من واقع ما سبق فإن الأحلاف العسكرية كانت تعبيراً عن زوال ثقة القائمين علىها، من جدوى نظام الأمن الجماعي، الذي رسخه ميثاق الأمم في الفصل (7)، والمؤكد أن قيام الأحلاف لم يساعد المنظمة الدولية على أداء دورها بفاعلىة، حال تصديها للإشكالات الواجب علىها مواجهتها، كما بدت الأحلاف العسكرية من عوامل التوتر بدلاً من أن تكون من عوامل الاستقرار، وستظل هكذا ما دامت هي مجرد وسائل بيد (مهندسي السياسات) وأصحاب القرارات السياسية للقوى المهيمنة على مصائر الدول، ولأن الأحلاف ليست جامدة أمكنها التبدل والتغير، حال اقتضاء الضرورة ذلك، ويتضح أيضاً أنها كانت أداة مهمة جداً من ضمن أدوات توازن القوى، في وقت غلبت فيه سمة الحرب الباردة -في صورها المتصلبة والقائمة- على المجابهة الحادة، وأن هوس الأحلاف المعاصر في السنوات نفسها، توقف مع انتقال العلاقات، لمرحلة انكسار المجابهة الحادة، وصولاً لمرحلة الانفراج، وأن العسكرية الجماعية، خفت وتيرتها لحد ما.
كما لوحظ أنه مع دخول مراحل الوفاق باتت الأحلاف العسكرية أكثر انفتاحاً بعضها على بعض، نتيجة لتأثيرات أحدثتها التقنيات والاقتصاديات والعقائديات، بعدما طرأت على العالم بأشكال يصعب حصرها، وأمكن من خلالها جمع الأطراف المتناحرة في داخل المؤتمرات.
لكن ذلك لا يعني زوال الأحلاف العسكرية أو انتهاء أهميتها عن ذي قبل، بحسبانها أداة في توازن القوى القائم، ما دعا كبار الخبراء للقول إنه بانتهاء التباسات الحدود الأقليمية، سوف ينتهي عصر التوازن، حتى يتغير طابع السياسة العالمية جذرياً، لينتقل إلى عصر المناورة، ونتيجة لذلك سيزداد خطر الحرب الشاملة، الذي سينتج عنه أيضاً في النهاية استهلاك الأطراف المتناحرة إمكاناتها، على أمل تقوية تحالفاتها العسكرية، بجانب أن بروز أقطاب عالمية جديدة على المسرح السياسي الدولي مثل (الصين الشعبية) أحدث تغييرات انعكست بالضرورة على وضعية الأحلاف، سواء فيما يخص ظهور أحلاف مضادة، أو تغير البنى التحتية للأحلاف القائمة بالفعل.
المصادر
= مذكرات تشرشل (ج 1)/ دار المعرفة للطباعة والنشر (بغداد) 2007م.
= المنظمات الدولية المختصة/ مصطفى سيد عبدالرحمن/ دار النهضة العربية (القاهرة) 2004م.
= الأمن الجماعي في الواقع الدولي/ جارش عادل/ المركز الديمقراطي العربي 16/10/2016م.
= حرب صليبية في أوروبا/ دوايت أيزنهاور- تعريب (إبراهيم عبود) تليجرام نتورك (القاهرة) 2019م.
= الموسوعة السياسية والعسكرية (ج 1) د، فراس البيطار/ دار أسامة للنشر والتوزيع (عَمان) 2013م.
= العسكرة المتكاملة/ جيزيل شارزات -تعريب- عمر كربوج/ دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر (دمشق) 1990م.
= الأحلاف والتكتلات في السياسة العالمية/ د. محمد عزيز شكري/ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت) 1978م.
= دور الأحلاف العسكرية في حفظ الأمن الجماعي الدولي وفقاً لميثاق الامم المتحدة/ أ. ميرغني حيزوم/ مجلة العلوم القانونية والسياسية عدد (8) يناير 2014م.